فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

التيمم يلزم كل مكلّف لزمته الصلاة إذا عدِم الماء ودخل وقت الصلاة.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والمُزِني صاحب الشافعي: يجوز قبله؛ لأن طلب الماء عندهم ليس بشرطٍ قياسا على النافلة؛ فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضًا للفريضة.
واستدلوا من السنة بقوله عليه السلام لأبي ذَرّ: «الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمّى الماء؛ فحكمه إذًا حكم الماء. والله أعلم.
ودليلنا قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد.
وقد تقدم هذا المعنى؛ ولأنها طهارةُ ضرورةٍ كالمستحاضة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأينما أدركتك الصلاة تيممت وصليت» وهو قول الشافعي وأحمد، وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وأحسب أنّ حكمة تشريعه تقرير لزوم الطهارة في نفوس المؤمنين، وتقرير حُرمة الصلاة، وترفيع شأنها في نفوسهم، فلم تُترك لهم حالة يعدّون فيها أنفسهم مُصلّين بدون طهارة تعظيمًا لمناجاة الله تعالى، فلذلك شَرع لهم عملا يشبه الإيماء إلى الطهارة ليستشعروا أنفسهم متطهّرين، وجعل ذلك بمباشرة اليدين صَعيدَ الأرض التي هي منبع الماء، ولأنّ التراب مستعمل في تطهير الآنية ونحوها، ينظّفون به ما علق لهم من الأقذار في ثيابهم وأبدانهم وماعونهم، وما الاستجمار إلاّ ضرب من ذلك، مع ما في ذلك من تجديد طلب الماء لفاقده وتذكيره بأنّه مطالب به عند زوال مانعه، وإذ قد كان التيمّم طهارة رمزية اقتنعت الشريعة فيه بالوجه والكفين في الطهارتين الصغرى والكبرى، كما دلّ عليه حديث عمّار بن ياسِر، ويؤيّد هذا المقصد أنّ المسلمين لما عَدِموا الماء في غزوة المريسيع صلَّوْا بدون وضوء فنزلت آية التيمّم.
هذا منتهى ما عرض لي من حكمة مشروعيّة التيمّم بعد طول البحث والتأمّل في حكمة مقنعة في النظر، وكنت أعدّ التيمّم هو النوع الوحيد بين الأحكام الشرعية في معنى التعبّدِ بنَوعه، وأمّا التعبّد ببعض الكيفيات والمقادير من أنواع عبادات أخرى فكثير، مثل عدد الركعات في الصلوات، وكأنَّ الشافعي لمّا اشترط أن يكون التيمّم بالتراب خاصّة وأن ينقل المتيمّم منه إلى وجهه ويديه، راعى فيه معنى التنظيف كما في الاستجمار، إلاّ أنّ هذا القول لم ينقل عن أحد من السلف، وهو ما سبق إلى خاطر عَمّار بن ياسر حين تمرّغ في التراب لمّا تعذّر عليه الاغتسال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يكفيك من ذلك الوجهُ والكفَّان».
ولأجل هذا أيضًا اختلف السلف في حكم التيمّم، فقال عُمر وابن مسعود: لا يقع التيمّم بدلا إلاّ عن الوضوء دون الغسل، وأنّ الجنب لا يصلّي حتّى يَغتسل سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر.
وقد تناظر في ذلك أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود: روى البخاري في كتاب التيمّم قال أبو موسى لا بن مسعود: أرأيتَ إذا أجنب فلم يجد الماء كيف يصنع؟ قال عبدُ اللَّه: لا يُصلّي حتّى يجد الماء.
فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي: كان يكفيك هكذا، فضرب بكفّيه الأرض ثم مسح بهما وجهه وكفّيه، قال ابن مسعود: ألم تر عُمَرَ لم يقنَعْ منه بذلك، قال أبو موسى.
فدَعْنَا من قول عمّار، كيف تصنع بهذه الآية {وإن كنتم مرضى أو على سفر} فما درى عبد الله ما يقول، فقال: إنَّا لو رخَّصْنا لهم في هذا لأوْشَكَ إذا بَرَد على أحدهم الماءُ أن يدَعَه ويتيمّم، ولا شك أنّ عمر، وابن مسعود، تأوّلا آية النساء فجعلا قوله: {إلا عابري سبيل} رخصة لمرور المسجد، وجعلا {أو لامستم النساء} مرادًا به اللّمس الناقض للوضوء على نحو تأويل الشافعي، وخالف جميعُ علماء الأمّة عمرَ وابنَ مسعود في هذا، فقال الجمهور: يتيمّم فاقد الماء ومن يخاف على نفسه الهلاك أو المرض أو زيادة المرض ولو نَزْلَة أو حمّى.
وقال الشافعي: لا يتيمّم إلاّ فاقد الماء أو من يخاف على نفسه التلف دون المرض أو زيادته، لأنّ زيادة المرض غير محقّقة، ويردّه أنّ كلا الأمرين غير محقّق الحصول، وأنّ الله لم يكلّف الخلق بما فيه مشقّة.
وقد تيمّم عَمْرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل وصلّى بالناس، فذكروا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فسأله فقال عمرو: إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه. اهـ.

.قال القرطبي:

وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء عاد جنبًا كما كان أو مُحْدِثا؛ لقوله عليه السلام لأبي ذَرّ: «إذا وجدت الماء فأمسّه جلدك» إلا شيء رُوِي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، رواه ابن جُريج وعبد الحميد بن جُبير بن شيبة عنه؛ ورواه ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن حَرْملة عنه قال في الجنب المتيمم يجد الماء وهو على طهارته: لا يحتاج إلى غسل ولا وضوء حتى يُحدِث.
وقد روى عنه فيمن تيمم وصلّى ثم وجد الماء في الوقت أنه يتوضأ ويعيد تلك الصلاة.
قال ابن عبد البر: وهذا تناقض وقلّة رويّة، ولم يكن أبو سلمة عندهم يفقه كفقه أصحابه التابعين بالمدينة.
الثامنة والثلاثون وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وعليه استعمال الماء.
والجمهور على أن من تيمم وصلّى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء ولم يكن في رَحلِه أن صلاته تامة لأنه أدّى فرضه كما أمر.
فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة.
ومنهم من استحب له أن يعيد في الوقت إذا توضأ واغتسل.
ورُوِي عن طاووس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزُّهري وربيعة كلهم يقول: يعيد الصلاة.
وآستحب الأوزاعي ذلك وقال: ليس بواجب؛ لما رواه أبو سعيد الخُدْري قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يُعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين» أخرجه أبو داود وقال: وغير (ابن) نافع يرويه عن اللّيث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذِكْر أبي سعيد في هذا الإسناد ليس بمحفوظ. وأخرجه الدّارَقُطْني وقال فيه؛ ثم وجد الماء بعد (في) الوقت. اهـ.

.قال في الأمثل:

يتساءل كثيرون: ما الفائدة من ضرب اليدين بالتراب ومسح الجبين وظهر اليدين بهما خاصّة أنّنا نعلم أن كثيرًا من الأتربة ملوثة، وناقلة للميكروبات والجراثيم؟
في جواب هذه الأسئلة نشير إِلى نقطتين مهمتين:
الأُولى: الفائدة الخلقية، فإِن التيمم إحدى العبادات، وتتجلى فيها روح العبادة بكل معنى الكلمة، لأن الإِنسان يمس جبهته التي هي أشرف الأعضاء في بدنه بيديه المتربتين ليظهر بذلك خضوعه لله وتواضعه في حضرته ولسان حاله يقول: يا ربّي إِنّ جبهتي وكذا يداي خاضعات أمامك إِلى أبعد حدود الخضوع والتواضع، ثمّ يتوجه عقيب هذا العمل إِلى القيام بالصلاة وسائر العبادات المشروطة بالغُسل والوضوء، وبهذا الطريق يزرع التيمم في نفس الإِنسان روح الخضوع لله، وينمي فيه صفة التواضع في حضرة ذي الجلال، ويدرّبه على العبودية له سبحانه، والشكر لأنعمه تعالى.
الثّانية: الفائدة الصحية، فقد ثبت اليوم بأنّ التراب بحكم احتوائه على كميات كبيرة من البكتريا تزيل التلوثات، إِن البكتريات الموجودة في التراب والتي تعمل على تحليل الموارد العضوية وإبادة كل أنواع العفونة، توجد- في الأغلب- بوفرة في سطح الأرض، والأعماق القريبة التي يمكن لها الانتفاع بنور الشمس والهواء بصورة أكثر، ولهذا عند ما تدفن جثث الأموات من البشر أو الحيوان في الأرض، وكذا ما يشابهها من المواد العضوية، نجدها تتحلل في مدّة قصيرة تقريبًا وتتلاشى بؤر التعفن على أثر هجوم البكتريات عليها، ومن المسلّم أنّ هذه الخاصّية لو لم تكن في التربة لتحولت الكرة الأرضية في مدّة قصيرة إِلى بؤرة عفونة قاتلة.
إِنّ للتربة خاصّية تشبه مواد الأنتوبيوتيك التي لها أثر فعال جدًّا في قتل وإِبادة الميكروبات.
وعلى هذا لا يكون التراب عاريًا عن التلوث فقط، بل هو مطهر فعال للتلوثات، ويمكنه- من هذه الجهة- أن يحل محل الماء بفارق واحد، هو أن الماء يحلل الميكروبات، ويذهب بها معه، في حين أن مفعول التراب يقتصر على قتل الميكروبات فقط.
ولكن يجب الانتباه إِلى أنّ التراب الذي يستعمل في التيمم يجب أن يكون طاهرًا نظيفًا، كما أشار اليه القرآن الكريم في تعبيره الجميل إِذا يقول: (طيبًا).
والجدير بالانتباه أنّ التعبير بالصعيد.
المشتق من الصعود.
يشير إِلى أن أفضل أنواع التربة الذي ينبغي أن تختاره للتيمم هو التربة الموجودة في سطح الأرض، يعني تلك التربة التي هي عرضة لأشعة الشمس والمليئة بالهواء والبكتريا المبيدة للميكروبات، فإِذا كانت تلك التربة المستعملة في التيمم طيبة وطاهرة أيضًا كان التيمم بها ينطوي على الآثار المذكورة من دون أن يكون فيه أي ضرر أو أية مضاعفات. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} الصعيد: وجه الأرض كان عليه تراب أو لم يكن؛ قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج.
قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافًا بين أهل اللغة، قال الله تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] أي أرضا غليظة لا تنبت شيئًا.
وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40].
ومنه قول ذي الرمة:
كأنّه بالضّحَى ترمي الصعِيدَ به ** دبّابة في عظام الرأس خُرْطُومُ

وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يُصْعَد إليه من الأرض.
وجمع الصعيد صُعُدات؛ ومنه الحديث: «إياكم والجلوسَ في الصُعدات» واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيبَّ؛ فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سَبخة.
هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والطبري.
و{طيبا} معناه طاهرا.
وقالت فرقة: {طيبا} حلالا؛ وهذا قلق.
وقال الشافعي وأبو يوسف: الصعيد للتراب المنبت وهو الطيب؛ قال الله تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] فلا يجوز التيمم عندهم على غيره.